الجـدِّيَّـة
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
الجدِّيَّة هى أهم ما يتميَّز به الإنسان الناجح. وعدم الجدِّيَّة سبب أساسي في فشل غيره من الناس. فالإنسان الجاد يعرف تماماً طريقه في الحياة، والوسائل التي توصله إليه. ولا يحيد عن ذلك يمنة ولا يسرة. ويشق طريقه بكل ثبات حتى يصل إلى غايته. هو كسفينة ضخمة تشق طريقها في بحر الحياة وبقوة حتى تصل إلى غايتها. وليس كقارب صغير تعصف به الأمواج والرياح في أي اتجاه.
?? الإنسان الجاد يكون جاداً في كل مسئولية تعهد إليه. لا يهمه إن كانت المسئولية كبيرة
أو صغيرة. إنما المُهم عنده هو الجدِّيَّة في أداء هذه المسئولية واتقانها. كالمُمثِّل الذي يتقن دوره في أيَّة رواية مهما كان الدور صغيراً. وهكذا قد يكون بطل الرواية هو خادم أو بواب فيها، وليس مديراً أو ملكاً. ومثال آخر هو لاعب الكرة الذي يهمّه أداء دوره في إنجاح الفريق متعاوناً مع باقي اللاعبين، أيَّاً كان دوره. وبهذا إن كان كل عضو في المجتمع يؤدي دوره بجدية، سينجح هذا المجتمع بلا شك.
?? نرى هذه الجدِّيَّة في العمل: فالتلميذ الجاد يهتم بمذاكرة دروسه من أول العام وتكون له فرصة للمراجعة مرة وأخرى حتى تثبت المعلومات في ذهنه ولا ينسَ منها شيئاً. ولا يكون خائفاً أو مضطرباً في وقت الامتحان. ولا يكون هدفه مُجرَّد النجاح، بل التفوق. بعكس الطالب غير الجاد الذي يهمل دروسه إلى نهاية العام، ثم لا يجد الوقت كافياً لإستيعابها ... كذلك العامل أو الصانع الذي يتميز بالجدية. فإن جديته تؤدي إلى تمييزه في انتاجه. ويضيف إلى ذلك دقته في المواعيد، واعتدال سعر ما ينتجه، وحسن تعاونه. وبهذا كله ينجح في عمله وتروج بضاعته.
?? والجدِّيَّة من أهم ما تتميز به الحياة العسكرية: فالرَّجُل العسكري هو إنسان جاد في كل شيء. في مواعيد صحوه، وفي انتظامه في الطوابير، وفي مشيته المنتظمة، وفي ثباته أثناء كلامه بحيث لا يحرك يديه وهو يتحدَّث ولا يلوح بهما. وهو جاد في كل ما يتعلَّق بالضبط والربط، وجاد في احترامه لمبدأ الطاعة والتسلسل القيادي. وبالتالي تنتشر الجدِّيَّة في حياته كلها، وتتدرج إلى العمليات العسكرية أيضاً. بل أيضاً في أعماله الإدارية يكون في ملء الجدِّيَّة ويثق الناس به.
?? والخطيب الجاد هو الذي يُحضِّر كلمته، ويُرتِّبها ويُنسِّقها. ويجهد في جمع معلوماتها، وفي حُسن صياغتها، بحيث تكون سهلة في الفهم وفي القبول ... أمَّا غير الجاد فقد يتكلَّم ارتجالاً وبلا ترتيب، وتظهر أفكاره مشوشة وناقصة. وفي غير جديته، لا يكون مُحتَرِماً لعقول السامعين.
نفس الوضع من الجدِّيَّة يكون مع الكاتب أو الصحفي ومع رجال العلم أيضاً، ومع الأساتذة والمدرسين.
?? والجدِّيَّة تظهر أيضاً في محيط السياسة. فعضو مجلس الشعب مثلاً ـ إذا كان جاداً ـ يدرك تماماً أنه صار نائباً للدائرة، ينوب عن أهلها في خدمتهم وحل مشاكلهم، ويكون دائم الصلة بهم. بالإضافة إلى مشاركته في السياسة العامة للوطن. بحيث يدرس الأمور التي ستعرض على المجلس. فإن تحدَّث فيها، إنما يتحدَّث عن معرفة وبكلام له تقديره وتأثيره.
أمَّا العضو غير الجاد، فلا يهتم ولا يدرس، ولا يكون له صوت، وقد يتغيَّب بلا سبب.
ولا يشعر أحد أنه كان عضواً في المجلس!
?? وفي مجال المعارضة السياسية، فإن المُعارِض الجاد يُحلِّل المواقف تحليلاً دقيقاً،
ويشرح رأيه بطريقة موضوعية. وفي اعتراضه يُقدِّم البدائل الإيجابية. وإن وجد خيراً يمتدحه. إنه يشترك في البناء السياسي كمراقب ومُحلِّل، والمعارضة هى جزء من النظام السياسي، تُظهِر الرأي الآخر، ولكن في نُبل وتعاون. والمعارضة الجادة لا تلعن الظلام إن وجدته إنما تضيء شمعة تُنير الطريق في حكمة.
?? ونحن لا نقصد بالجدِّيَّة في الحياة العبوثة والتَّزمُّت، أو أن يكون الإنسان الجاد بعيداً عن المرح والحياة الاجتماعية والتبسط مع الآخرين. إنما بالإضافة إلى مسئولياته الرسمية يكون لطيفاً مع الآخرين. والمعنى الرئيسي للجدِّيَّة هو عدم التراخي أو الإهمال في أي عمل
أو مسئولية. والإنسان الجاد يكون ملتزماً، يحترم نفسه ومبادئه، ويحترم الكلمة التي تخرج من فمه، ويحترم الطريق الذي يسلكه.
?? والإنسان الجاد يحترم عهوده مع الناس ونذوره مع اللَّه. إذا وعد بشيءٍ يلتزم باتمامه بمُجرَّد كلمته ولا يحتاج الأمر معه إلى صكٍّ مكتوب، أو إلى شروط رسمية. بل كلمته تُعتبر عهداً. فإن نذر نذراً للَّه يكون جاداً في تنفيذه، تماماً تماماً كما خرج من فمه. لا يحاول تغيير النذر، ولا يؤجل القيام به .. ولا يندم على ما قد نذره. فالنذر هو عهد بينه وبين اللَّه
لا يتراجع فيه.
?? والإنسان الجاد إذا تاب يكون جاداً في توبته، لا يعود إلى الخطيئة مرة أخرى. وإن عزم على التوبة، لا يؤجلها. ولا تكون حياته الروحية متأرجحة بين قياماً وسقوط بل تكون التوبة هى نقطة تحول في حياته لا يدركها التغيير.
?? والإنسان الجاد إن اعترضته صعاب في طريق الخير، لا يجعلها تعوقه بل ينتصر عليها. يكون الخير الذي فيه أقوى من العوائق التي تعطله. عزيمته تدفعه إلى قدام. وبالنسبة إليه العوائق ليست موانع.
إن عائق فقد البصر لم يمنع طه حسين من أن يصير عميداً للأدب في عصره. بل صار أيضاً رئيساً لجامعة الإسكندرية، ثم وزيراً للتعليم.
?? والإنسان الجاد لا يلجأ إلى الأعذار والتبريرات، يُبرِّر بها نقصاً في حياته أو تصرفه.
إن الأعذار هى غطاء يُغطِّي به المتهاونون فشلهم. إن نهر النيل لم تقوَ على اعتراض طريقه ستة جنادل ( يُسمون خطأ بالشلالات ). بل استمر في مجراه حتى وصل إلى البحر. والعصاميون الذين كونوا أنفسهم بأنفسهم، لم يعتذروا لظروفهم الاجتماعية الصعبة.
والشهداء لم يعتذروا لقسوة الحكام الوثنيين، بل اعترفوا بالإيمان غير مُبالين بتهديد أو تخويف أو تعذيب.
?? والإنسان الجاد ينمو باستمرار في حياته وفي فضائله، واضعاً المثالية هدفاً أمامه ليسعى إليه.